صوت يعلو فوق صوت الحرب


المستقبل - الخميس 9 نيسان 2009 - العدد 3272 - شباب - صفحة 11

كنت صغيرة، وذاكرتي ضعيفة أصلا، لكن صورة أمي تحتضن أولادها الستة لا تفارق ذهني. كانت تضمنا بقوة، تبكي، تستجمع قواها.صغيرة، لم أشهد بدايات الحرب، ولكن بعضا من النهاية والكثير الكثير من بدايات جديدة. من مخّلفات ما يسمى الحرب. من الحرب الجديدة المقنّعة بألف وجه.ميليشيات، قنّاصة، حواجز، حدود، ألغام، خط تماس...
كلها كلمات غريبة عني، عنّا نحن الصغار. كلمة وحيدة، يتيمة، كنت افهمها دائما حين يصرخ بها احد امامي : ملجأ. حفاة نركض وغالبا في ثياب النوم. كنت قد نسيت ذلك الصوت "الجبار" وما يتبعه من صفارات سيارات الإسعاف والدفاع المدني. لكنني استعدته خلال حرب تموز وما قبلها وما بعدها. تلك الرجفة الداخلية التي تُسكت الأنفاس، تترقب في انتظار دائم لصاروخ آخر. الإنتظار اللانهائي لا تعيه سوى بعد سنوات مرت. القلق، لم أشعر به الا قبل سنتين حين نظرت في عيون توأميّ للمرة الأولى. الحرب. كنا نتحدث عنها خلال فرصة الساعة العاشرة والنصف في ملعب المدرسة. صغار، بكل براءة، وما أجملها براءة الصغار، كنا نتمنى ان تشتعل من جديد كي نوقف الدروس المتعبة ونجلس بين الكبار نتعلم منهم حكايات، وتحليلات، واستراتيجيات، وتكتيكات الكلام والتحليل. ما كان ممنوعا ايام السلم كان مباحا اوقات القصف. السهر، التلفزيون او الراديو حتى ساعات متأخرة جدا، "الخرطشة" على الدفاتر والكتب المدرسية، البقاء في ثياب النوم طيلة النهار، كابوس الإستحمام يوميا بليفة خشنة جدا... لم نكن نعي أسباب القلة والفقر وشح المياه وانقطاع الكهرباء وندرة الخبز والكشك والبرغل على كل وجبة... لم نكن نعي سبب غياب بعض الأقارب والأصدقاء، ولماذا جارنا بات بساق واحدة...طبعا كنا نشعر بالخوف، وأكثر موجات الخوف تجتاحنا عند سماع ولولات النسوة في الشارع وصفّارة سيارة الموتى. كان الموت قريبا جدا منا وبعيدا جدا عن عالمنا. ما كنا نعرف لماذا تكثر الشرائط البيضاء في حارتنا.ما كنا نعرفه جيدا هو ذلك الفراغ والصمت اللامتناهي بين البيوت المهدمة والسيارات المحترقة. نتسمر امام تلك الصورة، في عريّ الموقع، في تلك الكلمة "الحرب"، التي تعبر التاريخ والعصور كما يعبر الصوت المدى، ترفسنا برجلها، تضربنا بسيفها، تجرحنا بمخبلٍ ينتقل سمّه بين الأجيال، تنخر في الوطن.

No comments:

Post a Comment