"مطبخ".. العملاء والوطنيين


المستقبل - الخميس 27 آذار 2008 - العدد 2915 - شباب - صفحة 10

تقف ام فادي على شرفتها المطلة تنادي ام غسان عالصبحية. ترد ام غسان وتلوّح بيدها معلنة وصولها "آتية، آتية". لسنوات عدة اعتمدت صوت ام فادي منبّها يوقظني، في الثامنة صباحا.وتدور الصبحية على فنجان قهوة من "ايدين احلى جارة" كما اعتاد نساء الحي تسميتها.أحاديث وأقاويل وضحك وثرثرات وضحك وكلام عن شغل البيت والطبخ "وبلا معلمية يا ام فادي الملوخية اطيب مع الكزبرة...".وصفات الطعام هذه التي اعتدت سماعها في الصباح بدأت تتلون ببعض الأحاديث السياسية الجانبية
الى ان تطورت شيئا فشيئا واصبحت الشغل الشاغل لنساء الصبحيات. في كل صبحية جديدة كان الخلاف يحتدم بين ام فادي وام غسان. لم استغرب الأمر لأنني اعرف خلفيتهما السياسية. فالمسؤول الذي تؤيده ام فادي كان على خلاف ووصل الى حد مقاطعة المسؤول الآخر الذي تؤيده ام غسان. لكن ما استغربته حقا هو انجرار بعض الناس (وهم كثر) التام في السياسة وزواريبها وإدخالها مباشرة حتى في اصغر امور الحياة اليومية. واكثر من ذلك تسيير امورهم حسب مواقف وأمزجة بعض المسؤولين. وللأسف اكتشفت هذا الأمر في صباح أيقظني فيه على غير عادة الصمت والهدوء. خرجت الى الشرفة فلا من صوت ولا من رائحة قهوة. في الساعات اللاحقة صوت تلفزيون ام فادي "يطوش" الحي. "مسؤول" يلقي خطابا سياسيا. في المساء اجتاح صوت تلفزيون ام غسان بيوت الحي بأسره. "مسؤول آخر" يردّ على كلام المسؤول الأول. و"روح يا بطل... خليلنا هالطلة اللي بتفتح النفس... يسلملي عينك...". وتعلو "زلغوطة" ام غسان حين يظهر ذلك المسؤول "لتقهر" ام فادي.ايام مرت على خلاف ام غسان وام فادي. علّقت صور كبيرة وصغيرة على الشبابيك والأبواب والأسطح وأعلام متعددة الألوان ومفرقعات ورصاص...وصندوقة التفاح التي تأخذ منها ام غسان لا تأخذ منها ام فادي. واكثر من ذلك فغسان لم يعد يتسكع كالعادة مع فادي في ساحة الضيعة.لم اكن اصدق ما كان يجري. فهاتان الجارتان كانتا "متلة" الضيعة. ما زال صوت المرحومة جدتي يطنّ في اذني وهي تخبرني حكاية صداقتهما. والحكاية تقول ان افعى سامة دخلت خلسة مطبخ ام فادي وكانت هذه الأخيرة وحدها وبما ان من عادات اهل القرى إبقاء الباب مفتوحا تحسبا لأي زائر شاءت الصدف ان تدخل ام غسان الى مطبخ جارتها. وتخبر ام فادي: "كنت ادير ظهري حين سمعت صوت ام غسان ورائي تصرخ "موتي، موتي" وتضرب الأرض بعصا. لم استوعب الأمر الا بعد دقائق ام غسان انقذتني".ولكن سبحان الله فقد استطاع المسؤولون المؤتمنون على سلام وامن وطننا العزيز وعيشه المشترك بخلافاتهم تفريق هاتين الصديقتين الى ان انستهما عشرة العمر. وكأنها حرب شنت بين جارتيّ العزيزتين. وهكذا استمر الخلاف ايام واشهر. وبعد الكلام عن الملوخية ويخنة البطاطا صرت اسمع عبارات "نحنا معنا حق... نحنا الوطنيين 100%.... انتو عملاء للخارج... انتوا ما بدكن الوطن...".هذا يتهم وهذا يوعّد وذلك يهدّد.منذ بضعة ايام وانا مستلقية في بيتي امارس هواية الـ zapping" شاهدت صدفة في نشرة الأخبار هذا "المسؤول" المعلقة صورته على شباك ام غسان يشارك العشاء "المسؤول الآخر" الموجود على سطح ام فادي والضحكة لم تفارق ثغرهما الملتهم للطعام في الوقت نفسه.في تلك الليلة لم اضبط منبّهي لأنني استيقظت في تمام الثامنة على صوت ام فادي تنادي ام غسان عالصبحية.

No comments:

Post a Comment