قصة من فم "أم"

Tweet It!


"يللا تنام يلا تنام لأذبحلك طير الحمام" هكذا كانت ترندح الأم لإبنها كي ينام على وقع الرصاص المتطاير يمينا وشمالا. ابن السنتين تعرف باكرا على رائحة الدواليب المشتعلة وصوت القنابل. عندما اشتعلت بيروت في اليوم الأول من الأيام السوداء الماضية كان ابنها عند بيت جديه في مار الياس. ومن الأشرفية حتى هناك لم تستطع الأم اختراق الدخان وبعض الزعران الذين استولوا على مدينتنا. هكذا اسمتهم زعران لأي جهة انتموا. تقول ان كل من كان في الشارع ساهم في زرع ما يسمونه "الفتنة". انها ليست الفتنة انه الكفر بحد ذاته. نحن نعيش في النار. أخبرت تجربتها بحرقة وبدموع ساخنة. قالت انا افترقت عن ابني ليلتين أشعر انني سخيفة امام امهات الشهداء الذين سقطوا بسبب تفاهة البعض. لقد ذبحوا لبنان مرتين الأولى في حرب تموز والثانية اليوم.
في اليوم الثاني من المعارك حاولت مرة اخرى التنصل منهم . كل الطرقات كانت مقفلة. لم اسلك طريق كورنيش المزرعة لأنني رأيتها في اليوم الأول باتت فيه أرضا خصبة لللإرهابيين. تضحك ضحكة صفراء . لا عجب انهم يسموننا ارهابيين في الدول الغربية. كيف لا وعند كل زاوية شاب مسلح مقنَّع. كيف لا وهم يقفلون المطار والمرفأ والطرقات في ساعة واحدة. تذكرت حادثة مضحكة مبكية حصلت منذ فترة أتانا بعض الأصدقاء من استراليا في زيارة قصيرة بعد ان الحيّنا انا وزوجي على ضرورة مجيئهم لرؤية جمال لبنان. حين مررنا قرب ساحة رياض الصلح قالوا لي " لم نعرف ان الغجر منتشرون بكثرة عندكم".
كنت اتنقل من طريق الى أخرى محاولة ايجاد منفذ اقطع منه على "المحور الآخر". سألت الكثيرين من القوى الأمنية والجيش علّهم يرشدوني الى زاروب مفتوح. الطرقات كلها مقفرة. أحسست وكأني في شبه صحراء. وفي احيان أخرى كأني في مكب كبير للنفايات. غمرني الحزن والألم تماما كما شعرت عند موت أمي. كنت ارى أمي بيروت تموت امامي. كاد اليأس يتملكني ولكنني لم استسلم لأن ابني يحتاجني. لا يمكنني ان اعود ادراجي واتركه هناك. ماذا لو تأزم الوضع اكثر؟ ماذا لو هجم المسلحون على البيوت؟ ماذا لو اجتاحتنا اسرائيل في هذه اللحظة؟ كل شيئ كان واردا في فكري. رحت اشتم الجميع. الجميع دون استثناء. لم اعي ما كنت اقوله في السيارة. اكثر من ساعة وانا ادور وادور في حلقة . ولكني صممت على الوصول. سلكت بعض الطرق الفرعية والزواريب الضيقة. كان بعضها هادئا مقفرا. كل الشبابيك والأبواب مقفلة. لا احد في الشارع او على الشرفة . وحدها الأراكيل نسيها اصحابها. وفي شوارع أخرى شباب مدني مسلح. يمنعوننا من المرور. يجلسون في منتصف الطريق. واحد يدخن وآخر يأكل منقوشة. "صحتين" قلت له في قلبي. "الك نفس تاكل؟". أشّر لي بيده بأن ارجع من حيث اتيت. ثم اقترب وقال "مافيكي تمرئي مدام في دواليب". نظرت الى عينيه. لم استطع الكلام . قلت له فقط "يعطيكم العافية". كنت قد أخذت الطريق البحرية ووصلت الى طلعة برج المر. هناك صادفت سيارة اجرة يقودها رجل ستيني . ماذا يفعل؟ يفتش عن ركاب محتملين في هذه العاصفة. ولكني فكرت بأنه ربما يعرف بعض الطرق المفتوحة فلحقت به. ولكنه سرعان ما انعطف الى طريق اخرى. هناك يفصلني عن شارع مار الياس بعض النفايات والبراميل المرمية في الطريق. عدد من السيارات تعود ادراجها عند رؤيتها تلك الفوضى. انها الطريق الوحيدة لم يعد هناك من احتمالات اخرى سوى تجاوزها . وهكذا فعلت. دولاب على الأرض وآخر كل على الرصيف. نجحت . حين اطل علي اول شارع مار الياس لم اميزه من الدخان الأسود الكثيف. لا مجال لإجتياز الإطارات المشتعلة. اصوات المراسلين على الراديو تنقر رأسي بالأخبار. من تصدق؟ كل اذاعة تنقل الخبر على ذوقها. بعضها نبش اغان وطنية قديمة من ارشيفه كانت تذاع ايام الحرب . وكأنهم لا يريدونها ان تنتهي. لماذا الحرب ما داموا سيتفقون في النهاية؟ هل كتب ان يكون ثمن هذا الإتفاق في كل مرة دم ورعب وخوف؟.
أكملت الطريق واجتزت الشوارع الضيقة. كنت اقود في عكس السير. هل سيوقفني احد لأني اخالف السير؟
كل شيئ يجوز في بلادنا. رأيت اعلاما خضراء وصفراء على السيارات على الشرفات على عواميد الكهرباء. لم ارى اي علم لبناني بينها.
سألت شاب يرتدي بذلة الجيش اللبناني اريد دخول شارع مار الياس اي طريق اسلك ؟ قال لي ان بعض الشباب في آخر هذا المفرق يتجمعون هناك اسأليهم عالأكيد لأنك مدام بمرئوك. شكرته وابتسمت . شباب متمركز على المفرق اقترب مني احدهم لوين مدام؟ قلت لو سمحت اريد المرور. قال لا يمكنك ممنوع. لم اعرف بماذا شعرت في تلك اللحظة انا مضطرة لأن استجدي شخصا "ما بعرف قرعة بييو من وين" ليسمح لي ان اقطع طريق مدينتي في وطني. شخص لا يمت للدولة بأية صلة. لا اعرف حتى اذا كان لبناني الأصل. بأي حق؟ . حاولت اقناعه بأني اريد الوصول الى طفلي فرد علي بكل برودة "اتركي السيارة عنا وروحي مشيًّا". اغرورقت عيناي بالدموع. ماذا افعل؟ بماذا اجيبه؟ شعرت وكأن ذلك الشاب هو سجّاني.
عندما وصلت الى ابني خجلت منه خجلا عميقا. كنت افكر واقول أي وطن نترك لك يا ولدي؟ اي تاريخ؟ اي استقلال؟

No comments:

Post a Comment