انها الحادية عشرة مساء، تشير الساعة الكبيرة على الحائط. يرصد جهاد حركة العقارب في تسارعها قبل أن يعود الى كتابه. يتنهد " بعد في ساعة". دوام العمل الليلي يدفعه لدفن الوقت بالقراءة. على الأقل بهذه الطريقة يغذي ذاكرته بأشياء مفيدة تنسيه بعض التوتر. ولربما ينسى الحالة المذرية التي يمر بها منذ ثلاث سنوات.يومها كان الأمل كبيرا عقب تخرجه من الجامعة. وكانت زغاريد امه
في كل مكان استناداً على وعد بأنه سيصبح استاذ رياضيات "اد الدني". اندفاع الشباب في السنوات الأولى يعمي بصيرتهم عن قساوة الحياة. كل واحد يعتقد انه سيغير الدنيا وحالته لن تكون كحالة الآخرين. ما الذي يمنع شاب في الرابعة والعشرين من عمره من ملئ اسبوعه بساعات تعليم طويلة تدر عليه مالا وثقة بالنفس خصوصا اذا كان من الشباب الناجح والمثقف والمكب على العمل؟. لا شيء. هكذا كان يفكر جهاد الى ان بدأت الأمور تتوضح امامه سنة بعد سنة. "الواسطة" هي كل شيء. حين تغير مدير المدرسة صرف جهاد من عمله مع شلة لا بأس بها من المدرسين من دون اي سبب او تبرير. راح يدق ابواب المدارس الكبيرة والصغيرة عارضا شهادته الجامعية مع التميز وسنوات من الخبرة القليلة. منذ بضعة اشهر أطفأ شمعة الثلاثين من عمره وفي رصيده خمس ساعات تعليم في الأسبوع ومقعد خلف طاولة الإستقبال في احد فنادق بيروت المتواضعة. كيف يمكن لأستاذ رياضيات ان يكون عامل استقبال في فندق ؟. تبادر هذا السؤال مليون مرة على رأس جهاد ولكنه في النهاية وجد تفسيرا منطقيا اقنعه بضرورة المضي بهذا المصير. اذا تغاضينا للحظة عن مستلزمات الحياة الملحة التي لا يمكن ان تؤمنها ساعات التعليم، فالعمل في فندق ليس بالوضع السيئ الى حد ما. هناك لا يمكن ان يراه احد من تلامذته. ولا حتى من الأساتذة زملائه. اذا هو محمي من عيونهم خلف ذلك الباب الزجاجي المتحرك. "عالأقل لا اعمل security . لا احد يراني من الخارج فقط الذي يدخل الفندق. ... اكيد بستحي من تلاميذي اذا رأوني". جهاد لا يستمتع كثيرا بعمله الثاني "المؤقت" ولكنه لم يجد حلا آخر سوى ذلك. هو اليوم بعد وفاة والده مسؤول عن عائلة مؤلفة من خمسة اشخاص. واذا شاء ام ابى عليه وضع احلامه جانبا الى اجل غير محدد مقابل 350 دولار هو مدخول جهاد الشهري من الفندق يتقاضاها منذ ثلاث سنوات . وسيبقى يتقاضى المبلغ نفسه من دون أن تطاله الزودة بذريعة مديره: " يا جهاد انت معاشك مسجل في الدولة على انه الحد الأدنى، اي 325 الف ليرة واذا زدنا عليه 200 الف ليرة اي الزودة يصبح 525 الف ليرة اذا انت واصلك حقك من زمان... ولكن لأثبت حسن نيتي تجاهك سأرفع معاشك وأزيد عليه 25$ في الشهر .... يلا يعطيك العافية". بماذا يمكن ان يجيب؟ حين فكر بالموضوع وصل الى تحليل سريع يقول ان المدير هو في الأساس شخص جيد ولكن وضع البلاد يدفعه للتصرف بهذه الطريقة. ثم لو فكر مرة واحدة فقط بترك العمل فلن يتعب المدير بإيجاد بديل له اما هو فأين يجد البديل؟. الأمل موجود دائما بالرغم من شعور الإحباط واليأس الذي يتملك وجهه البشوش. هناك حلاّن :" اما ان اربح ورقة اللوتو او احزم حقيبة السفر...". وما زال هنالك اشخاص يتساءلون لماذا يهاجر ابناء الوطن! .
No comments:
Post a Comment